السودان- إفلاس فكري، أحزاب متداعية، ومستقبل على المحك.

المؤلف: د. ياسر يوسف إبراهيم09.27.2025
السودان- إفلاس فكري، أحزاب متداعية، ومستقبل على المحك.

يا حسرة على السودان من دخائله!

ويا أسفاه على السودان من أحزابه!

لا تقتصر المخاوف التي تساور السودانيين على مستقبلهم على مجرد الحرب وتبعاتها الوخيمة، فالحرب ما هي إلا تجلٍّ لمرض أعمق وأخطر، وتداعياتها ليست سوى فصل باهت في قصة مأساوية ومروعة. إن ما يستدعي الفزع حقًا هو التصدع الذي أصاب المؤسسات الأساسية المنوط بها الحفاظ على الوحدة الوطنية المتماسكة، والتخطيط الرصين لمستقبل البلاد الزاهر.

لقد انهارت المنظومات السياسية والمؤسسات المجتمعية، التي بدأت في التبلور منذ حقبة الحكم الثنائي الإنجليزي المصري (1898-1956)، تحت وطأة سلسلة متصلة من الإخفاقات المتراكمة لأنظمة الحكم المتعاقبة على السودان منذ بزوغ فجر الاستقلال، وصولًا إلى الحرب الراهنة التي تعكس فصولها المأساوية قمة الفشل الذريع للنخبة السياسية السودانية بكل أطيافها المتناحرة (على سراب).

وبنظرة فاحصة للواقع الوطني المعاصر، تتجلى الحقيقة الموجعة بأن السياسة في هذا البلد المنكوب قد بلغت طور الإفلاس الفكري التام، وتحطمت كل التجارب الفكرية على اختلاف مشاربها، يسارية كانت أم يمينية، قومية أم إسلامية، طائفية أم عسكرية، دون أن تحقق المبتغى الوطني المنشود، والمتمثل في بناء نهضة شاملة تحفظ كرامة المواطن السوداني وتحقق آماله وطموحاته.

لا يوجد خطر يتهدد مستقبل الشعوب وراهنها أشد من الوصول إلى مرحلة فقدان البوصلة التي تهدي إلى الأمام، وخلو جعبتها من أي فكرة صالحة للتطبيق. فهل يجرؤ أحد اليوم، وسط هذه الظروف الحالكة، على الجدال بأننا استنفدنا كل فرص التجريب لكل الأفكار ووصلنا إلى هذه النتيجة القاتمة؟ نتيجة الانهيار الفكري الشامل الذي تتجلى علاماته في غياب المشروع الفكري للدولة، والاستخفاف بالعقل وكل نتاج فكري، وهيمنة ثقافة التفاهة وتمجيد رموزها، وتكاثر الكيانات الهلامية، والاستسلام للواقع البائس أو ما يمكن نعته بالعجز المطلق.

لم يكن الوصول إلى هذه النقطة المزرية من الفشل أمرًا خافيًا على أي وطني غيور، أو مثقف متنور، أو مواطن يتمتع بفطرة سليمة وبصيرة نافذة. فالجراثيم المسببة للفشل قد تفاقمت منذ اللحظات الأولى لظهور الحركة الوطنية السودانية.

يقول غسان علي عثمان في مؤلفه "عنف النخبة": "يجدر بنا القول في هذا الصدد بأن النخبة الأولى، وعلى رأسها إسماعيل الأزهري، هي من وضعت اللبنة الفاسدة في جسد الدولة السودانية من خلال تبني أضعف الأهداف والتركيز على الهروب من التحديات الجوهرية".

ومع توافقنا التام مع رؤية غسان، نود أن نضيف بأن هذه اللبنة الفاسدة قد سبقت حتى تكوين مؤتمر الخريجين، إذ ترسخت جذورها مع ولادة مجتمع المثقفين بعيد تأسيس كلية غوردون التذكارية، التي بدأت في إمداد المجتمع السوداني بشريحة جديدة تمثلت في طبقة الأفندية، أو البروليتاريا الفكرية كما وصفها سبنسر تريمنغهام، الذي يصفهم بأنهم: "أولئك الذين تلقوا التعليم الحديث ويرتدون الملابس الغربية، ويعانون من الازدواجية الثقافية والاضطراب الديني. لقد تلقوا تعليمهم في السودان، ولكن أسلوب ومحتوى التدريب، باستثناء الدين، كان غربيًا خالصًا، وكان تأثيره تمزيقيًا لا توحيديًا. لقد عرضت عقولهم لشتات هائل وأبقوا أرواحهم جائعة. لقد تعلموا أداء الأعمال الكتابية والفنية، ولكنهم لم يتعلموا كيف يعيشون".

إذًا، كان لضعف التكوين الروحي والفكري لهذه الطبقة الجديدة بالغ الأثر في كيفية تعاملهم مع القضايا الوطنية لاحقًا، وهو ما أدى بهم في نهاية المطاف إلى الاحتماء بالطائفية التي حاربوها في البداية، أو إلى التماهي مع فكرة الانقلابات العسكرية ورعايتها أو المشاركة فيها. وذلك بعد أن منيت دعوتهم لبناء كيان مستقل يرتكز على مسار وطني بعيدًا عن الطائفية السياسية ورموزها التقليدية بالإخفاق الذريع، بعدما "اكتشف المثقف السوداني أنه يعيش مرحلة تشكل وطني غير ناضج"، على حد تعبير أبو القاسم حاج حمد، أو ضعيف الحيلة كما وصفه غسان علي عثمان: "كثير الخطابة، عظيم الطلب، قليل الحيلة".

ومن رحم ذلك الفقر المدقع في الرؤية، وغياب الاستشراف المستنير للمستقبل، ولدت الأحزاب السياسية في حقبة سبقت تاريخ الاستقلال بسنوات معدودات. ومع انطلاق فترات الحكم الوطني، اتضح جليًا أن النخبة الوطنية التي نشأت في كنف المؤسسات الاستعمارية لا تمتلك الحس التاريخي الكافي للتعامل مع وطن مترامي الأطراف كالسودان، المتعدد الأعراق والثقافات، والمتباين في الديانات والأفكار.

بدأ الفشل عندما عجزت هذه النخبة عن بناء مؤسسات وطنية مستقلة ومحايدة تكون بمثابة الترياق الواقي من الفساد والتسييس المدمر. وبدلًا من ذلك، تشبثت النخبة بكل ما ورثته دون أي تطوير يضفي عليه نفحة الاستقلال الوطني، أو كما يصف وائل حلاق حال النخبة في الدول العربية: "لقد حافظت على هياكل السلطة التي ورثتها من التجربة الاستعمارية التي حاربتها أثناء الحقبة الاستعمارية، وذلك بعد أن نالت بلادها ما يسمى بالاستقلال".

تجربة الحكم الوطني

تأرجحت تجربة الحكم الوطني بين ثلاث حكومات ديمقراطية وثلاث حكومات عسكرية. وكانت تجارب الحكم الديمقراطي من نصيب الأحزاب التقليدية: (حزب الأمة وطائفة الأنصار، والحزب الديمقراطي وطائفة الختمية).

العامل المشترك الذي اتسم به حكم هذه الأحزاب هو الانغماس الشديد في الخلافات الهامشية، وتبني التكتيكات والمناورات الضيقة (والانقسام على أسس شخصية وأيديولوجية)، كما لخص روبرت كولينز الصراعات التي عصفت بالحزب الشيوعي. وقد انعكس هذا الأمر على عجز هذه الأحزاب عن صون الديمقراطية أولًا، وعن تقديم أي مشروع استراتيجي للتنمية ثانيًا.

في ظل هذا الفشل المتواصل من جهة، وتحت وطأة التضييق الذي تعرضت له هذه الأحزاب جراء الانقلابات العسكرية من جهة أخرى، تحولت هذه الأحزاب الطائفية إلى ما يشبه (الكيانات الأسرية)، حيث ضاقت قياداتها التاريخية بالآراء الحرة وبالدعوات المطالبة بالتجديد والانفتاح.

من المسلم به أن قمع الحريات داخل الأحزاب لا بد أن يؤدي إلى الانفجار والانقسام، وهو ما حدث بالفعل. فقد انتهى المطاف بحزب الأمة إلى أكثر من خمسة أحزاب تحمل الاسم ذاته وتستند إلى الشريحة الاجتماعية نفسها التي ساندت الحزب في بداية نشأته بعد الاستقلال.

أما قرينه، الحزب الاتحادي الديمقراطي، فلا يقل انقسامًا وتشرذمًا عن خصمه التاريخي. وقد أدى هذا الواقع المتشظي بهذه الأحزاب إلى ما يشبه الشلل التام، والعجز المطلق عن إطلاق أي مبادرة ذات قيمة وطنية.

أما الحزب الشيوعي السوداني، الذي كان يومًا ما أقوى الأحزاب الشيوعية في أفريقيا، فيبدو أنه قد استقال من الأدوار الوطنية البناءة متأثرًا بتداعيات انقلاب هاشم العطا في بداية السبعينيات (والمذبحة التي ارتكبها النميري بحق قياداته). وباتت مواقفه دائمًا مبنية على الرفض القاطع لكل الحلول، بينما يقتصر تعاونه مع الحركات المسلحة ذات الصبغة اليسارية على دور المؤازرة والاحتجاج.

وفيما يتعلق بإنتاجه الفكري، ففي ظل تمسكه العنيد بسلفيته اليسارية العتيقة، هجره جموع مثقفيه الحائرين بين الليبرالية الجديدة والحنين إلى الاشتراكية المستحيلة. أما الحزب، فقد استبدل الأفكار بالأشعار، وأراح نفسه من الجدال العقيم بأطروحة التغيير الجذري الغامضة والمبهمة.

لم يتبقَ في المشهد السياسي من قوة مؤثرة سوى (الإسلاميين)، الذين يتفوقون على كل هذه القوى السياسية بالحضور الجماهيري في القطاعين التقليدي والحديث. إلا أن رؤيتهم الشاملة ومشروعهم الفكري لمستقبل البلاد في حاجة ماسة إلى مراجعات عميقة وإصلاحات جذرية، خصوصًا بعد خروجهم من تجربة الحكم الممتدة لثلاثة عقود، وتعرض الشرعية الأخلاقية لأطروحة الحكم الإسلامي المستندة إلى فكر الصحوة الإسلامية لتحديات جمة، من حيث قدرتها على التكيف مع المتغيرات الفكرية العالمية، ومعالجة المخاوف المحلية والدولية، والتعايش مع واقع تتباين حقائقه مع جوهر النظرية التي تقوم عليها دعائم فكر الحركة الإسلامية المعاصرة.

أما الشواغل الخاصة بالإسلاميين، فتتمثل في قدرتهم على تجاوز التداعيات السلبية التي خلفتها تجربة سقوط الحكم على وحدتهم، والمحافظة على فاعلية التيار الإسلامي، وتسخير قدراته البشرية في سبيل ما ينفع الوطن ويتجنب التجارب المريرة للأحزاب السودانية النزّاعة إلى الانقسام (على أسس شخصية وذاتية).

وعلى الرغم من وجودهم المؤثر في مشهد معركة الكرامة، فإن (حجم التشويه الذي تعرض له التيار الإسلامي وضخامة الضغوط الإقليمية) قد قيدت حريته الوطنية الجاهرة وكبلت قدرته على إطلاق مبادرات وطنية توازي حجم تأثيره المجتمعي.

يزيد من خطورة هذا المشهد الحزبي المتداعي ظهور عامل جديد في الساحة السياسية السودانية، وهو (عسكرة العمل السياسي)، حيث تصدرت المشهد حركات مسلحة تمارس السياسة، لا هي أحزاب بالمفهوم التقليدي للحزب ولا هي جيش نظامي يحتكر العنف لصالح الدولة كما نادى بذلك ماكس فيبر. وبالتأكيد، لا يُنتظر منها تقديم رؤية لمشروع وطني للنهضة والازدهار.

ختامًا، لا يسعنا إلا أن نقول بأن الأحزاب السياسية قد استنفدت طاقتها خلال المسيرة الطويلة، وأن المشهد السياسي في أمس الحاجة إلى تأسيس جديد يقوم على دعائم من التوافق الوطني الواسع والشامل، توافق يُقر بأن المسيرة السابقة قد أوصلتنا إلى (حافة الإفلاس). إننا بحاجة ماسة إلى تواضع جماعي نعترف فيه بأخطائنا المشتركة، وإلى تصالح مع الذات يمنحنا القدرة على مراجعة مسلماتنا الفكرية التي ظننا أنها فوق النقد والمراجعة.

لقد أثبت التطور الفكري في المجال السياسي أن الأيديولوجيات الصماء المنغلقة على نفسها قد تداعت وتجاوزها الزمن، وأنه لا مفر من إعادة بناء المشهد السياسي على أسس علمية راسخة، وتشييد مؤسسات وطنية قوية مستقلة ومحايدة تتولى مهمة التخطيط لمستقبل الدولة وصيانة وحدتها وقوتها.

أما الأحزاب السياسية، فإنها في أمس الحاجة إلى دراسة معمقة للظاهرة الشعبوية التي اجتاحت العالم وتجاوزت الدور التقليدي للأحزاب. وإن لم تفعل ذلك عاجلًا، فلن تتمكن من الحفاظ على الماضي ولن ترتقي إلى المستقبل.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة